يا رسول؛ الله حدثتَنا أن إبراهيم عليه السلام حين يأتيه المؤمنون يوم الحشر يستشفعونه إلى الله تعالى ليدخلهم الجنة يذكر كذباته ويقول :
نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى موسى . فماهي هذه الكِذبات ؟ وهل يكذب نبي؟! إننا نقف محتارين حين يخطر ببالنا أن نبياً يكذب !!.
نظر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم نظرة المعلم الحاني ، وابتسم ، فأشرقت نفوسهم بابتسامته ، ولمعت عيناه ببريق شع ضوءُه فدخل أفئدتهم ، فأنارها ، وأقبل عليهم ، فأقبلوا عليه .
فقال : كذب إبراهيم ثلاث كَذبات ( في عرف الأنبياء ) إذ كل حركة وسكنة محسوبة عليهم ، وعين الخلق – محبّهم ومبغضهم – تتابعهم ، يحصون ما يفعلون وما يقولون . فالمؤمنون يفعلون ذلك أسوة واتّباعاً ، والشانئون يفعلونها إرصاداً وإحصاء .
أما الكذبة الأولى فقد كان قومه أهل تنجيم ، فرأى نجماً قد طلع ، فنظر إليه متأملاً عظمة الخالق وجماله فيه ، وجاءه قومه يسألونه أن يخرج معهم للاحتفال بولادة هذا النجم - وهذا من طقوسهم – فبيّت إبراهيم في نفسه أمراً لا يستطيع عمله إلا إذا خلا الجو ، وفرغ المكان من الناس ، فعصب رأسه ، وقال : إني مطعون ( مصاب بالطاعون) فتولوا عنه مدبرين خوفاً أن يعديهم .
قال الصحابة الكرام : وما الأمر الذي عزم إبراهيم عليه السلام أن يفعله حين يخلو بنفسه ؟.
قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم :
إنه عزم أن يكسر الأصنام التي يعبدونها لينتبهوا من غفلتهم ، ويعلموا أن هذه الآلهة المزعومة – لو كانت آلهة بحق – دافعت عن نفسها .
قالوا : وهل فعل ما قرره ؟!
قال صلى الله عليه وسلم : لما خرج الكهنة ومعهم دهماء الناس مال إبراهيم إلى الأصنام دون أن يشعر الناس به ، فدخل المعبد ، فوجد أمام الأصنام طعاماً ،
فقال لها هازئاً بها : هذا الطعام أمامك ، فيه ما لذ وطاب ، كليه !! مدي أيديك إليه !! .
ولكنْ لاحياة لمن تنادي ....
قال لها مرة أخرى : تذوقيه وتلذذي به ؛ لِمَ لا تفعلين ؟! ..إن كهنتك الأفاقين يُلبّسون على الجهلة ذوي العقول الفارغة ، فيوحون إليهم أنك تأكلين وتكلمينهم ، وتوحين إليهم ، فهم الواسطة بينك وبين الغوغاء !! لماذا لا تنطقين ؟ لأحطمنّك إرْباً إرْباً ، فدافعي عن نفسك ، حافظي على ألوهيتك ! .. ولكنْ أنّى للحجر والخشب أن يتكلما أو يدفعا عن نفسيهما السوء؟! إنها آلهة مزعومة ، لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً ...
كانت نفسه في أوج كرهه إياها ، فطفق يضربها بقوة ، يكسرها ، يفتتها ، يبعثرها .. حتى جعلها حطاماً ... وترك كبيرها وسط الدمار علامة الضعف والذل والهوان ، وعلّق عليه الفأس احتقاراً ، عل عبّاده يفكرون ، ويعلمون أنهم في ضلالهم يعمهون ... إن التفكير السليم يوصل إلى القرار السليم .
وجاءه قومه فدخلوا معبدهم ، ويا لَهولِ ما رأوا ! ... هذه الآلهة صارت شَذَر مذَر ... من يجرؤ على هذه الفعلة الشنيعة ؟!!
قال بعضهم : هناك فتى يذكر آلهتنا بسوء اسمه إبراهيم ، فلعله الفاعل ! .
وجيء بإبراهيم ، فأوقفوه موقف المتهم ، وسألوه : أأنت فعلت هذا بآلهتنا ؛ يا إبراهيم ؟!
وكان الناس مجتمعين يسمعون وشهدون .
وهنا تفوّه بالكذبة الثانية : وهي في الحقيقة وخزة لضمائر الناس وهزة لعقولهم ، قال :
بل فعله كبيرهم هذا ، فاسألوهم إن كانوا ينطقون !!
لقد غضب هذا الإله الكبير أن تُعبد الآلهة الصغيرة معه ، فانتهز فرصة غيابكم ، فتخلص منها ... اسألوه ، إنه أمامكم ....
إن الفطرة حين تنفضّ عنها ركام الجاهلية ولو برهة يسيرة تنطق صواباً ... لقد كان دفاعه رائعاً حقاً ، منطقياً ، رجّهم رجّاً ، وهزّهم هزّاً .
قالوا : لقد ظلمتم إبراهيم حين اتهمتموه ، هذه آلهتكم أمامكم فاسألوها ، اوَ لستم تعبدونها وتقدّسونها ؟! ففيها حياة إذن !! وضج المكان بالتساؤلات الجادّة والتكهّنات الساخرة .
كان من البدهي – لذوي الأحلام وأصحاب العقول – أن يثوبوا إلى صوابهم ، ويعرفوا أن هذه الأصنام التي صنعوها بأيديهم هم سادتها ، وليست هي سيدتَهم ...
ولكنْ أنّى للعقول العفنة التي ران عليها الكفر ، وطمسها الضلال أن ترى نور الحق وضياء الوحدانيّة ؟! أنّى لمن عاش في حمْأة الغي أن يتلمّس الهداية والإيمان ؟!
لقد كادت كلمات إبراهيم تزلزل الأرض تحت أقدام الكهنة المتعفنين ، وتسلبهم سلطتَهم وزعامتهم إلى الأبد ... لا لا .. لا ينبغي لصاحب الكلمة الحق أن يصدع بها ، إنما يجب كمّ فمه ، فلا يتكلم ، ويجب إرهاب الحاضرين كي يجبُنوا فلا يتبعوه ...
قالوا وقد أعمى الضلال قلوبه ، ونكسهم ، فغاصوا في أوحال الشرك والكفر :
"لقد علمتَ ما هؤلاء ينطقون" ، فقلتَ قولتَك تحرّك بها عوام الناس وتؤلبهم علينا ، وتسحب البساط من تحت أرجلنا !!..
استمر صوت إبراهيم مدوّياً ، يتحدّى أن يشلّ الداعية أو أن يخيفه :" أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضرّكم ؟!.. "
ثم أعلن أن العبادة الحقة لله وحده ، فقال : " أفّ لكم ولما تعبدون من دون الله .. أفلا تعقلون ؟!."
أما الكذبة الثالثة فقد كان إبراهيم عليه السلام – بعد أن نجّاه الله من النار التي أرادوا أن يحرقوه بها ، فانقلبت عليه برداً وسلاماً- ذات يوم وزوجه سارة قد ابتعدا عن أرض الكفر والفساد ، ودخلا أرضاً يحكمها جبار من الجبابرة ، فأرسل إليه مخبروه أنّ ههنا رجلاً معه امرأة من أحسن النساء جمالاً وسمتاً ، فأرسل إليه ، فسأله عنها والشرر يتطاير من عينيه ، يريدها لنفسه . فإن قال إبراهيم : إنها زوجتـُه قتله وأخذها .فقال : إنها أخته ... فقال الجبار : أريدها إذاً .
فانطلق إبراهيم إلى سارة ، فقال لها : ليس على وجه هذه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإن هذا سألني عنك ، فأخبرتُه أنك أختي ، وأضمرتُ الأُخُوّة في الله ، فلا تُكذّبيني .
فأرسل الجبار إليها ، فلما مثلت بين يديه مدّ يده إليها ... فتوقفت يده كأنها قطعة خشب ، لا يستطيع لها حراكاً ... قال لها : ادعي الله لي ، ولا أضرك ، فدعت الله تعالى ، فأُطلقت يدُه بإذن الله تعالى ... لكنّ شيطانه وسوس له أن يحاول كرّة أخرى ، ففعل ، فأصابه أشدُّ ما أصابه في المرّة الأولى ، فناشدها الله أن تدعو له ، ولن يعود إليها . فدَعَتْ ، فأُطلقتْ يدُه ..
فدعا الجبار بعض خدمه ، فقال : إنكم لم تأتوني بإنسان ، إنما أتيتموني بشيطان – وتناسى أنه هو الشيطان – أعيدوها ، وهبوا لها هاجر خادمة لها .
فجاءت سارة إلى إبراهيم وهو يصلي ، فأومأ بيده إليها يسألها عن حالها – لم يستطع الانتظار ، فالأمر جد خطير – فقالت مقالة المؤمن الواثق بربه : ردّ الله كيد الكافر .
صحيح البخاري ج 3
كتاب بدء الخلق : باب قول الله تعالى :
واتخذ الله إبراهيم خليلاً